محاكمة "التآمر"- اختبار صعب للقضاء والحقوق في تونس

في الرابع من مارس/ آذار، انطلقت في تونس أولى فصول محاكمة ما بات يُعرف بـ"قضية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي"، وذلك بعد مرور أكثر من عامين على توقيف المتهمين وبدء التحقيقات المتواصلة.
تُعد هذه القضية الأبرز والأكثر أهمية من بين ما يقارب ثمانٍ وعشرين قضية تآمر أخرى معروضة أمام المحاكم وقيد التحقيق. يشمل هذا الملف القانوني واحدًا وأربعين متهمًا، منهم عشرة قيد الاعتقال، بينما يقبع آخرون خارج البلاد، ممّا يعني أنّهم في حالة فرار، في حين يتمتع البعض بالإفراج المؤقت. ومن بين المتهمين شخصيات قيادية سياسية مرموقة وناشطون سياسيون ينتمون إلى تيارات فكرية وسياسية متنوعة.
تحولت هذه القضية إلى محور اهتمام الرأي العام التونسي، وموضوع متابعة دقيقة من قِبل العديد من الهيئات والمنظمات الحقوقية الدولية. بالإضافة إلى هوية المتهمين وخطورة التهم الموجهة إليهم، ساهمت عوامل أخرى في جعل هذه القضية محط ترقب واهتمام على مدار العامين الماضيين، ومن بين هذه العوامل:
- قرار النيابة العمومية الصادر في شهر أكتوبر من عام 2023 بحظر التداول الإعلامي في تفاصيل القضية؛ وذلك بهدف منع عائلات المعتقلين وأعضاء هيئة الدفاع من الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام حول خلوّ الملف من الأدلة والقرائن القوية، بالإضافة إلى المخالفات الإجرائية التي عرقلت سير التحقيق بشكل طبيعي.
- قيام النيابة العمومية بتبرئة الأطراف الدبلوماسية الأجنبية المقيمة في تونس، بما في ذلك السفراء والقناصل والمسؤولون في العديد من البعثات الدبلوماسية، الذين وردت أسماؤهم في التحقيقات الأولية كجهات "تخابر" معها بعض المتهمين في القضية. هذا التبرئة تعني، بشكل منطقي، انتفاء الركن الأساسي في الملف، وهو التواصل مع جهات خارجية. ومع ذلك، استمرت تهمة التخابر في ملاحقة الموقوفين، على الرغم من تبرئة الأطراف الأجنبية.
- هروب القاضي الذي كان مكلفًا بالتحقيق في القضية إلى خارج البلاد، ثم اتهامه لاحقًا بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وتعيين قضاة آخرين بدلاً منه، آخرهم تمّ تعيينه منذ فترة وجيزة.
- قرار المحكمة بعقد جلسات المحاكمة بشكل سري وعن بعد، أي دون حضور عائلات الموقوفين ومحاميهم والإعلاميين. يتمثل ذلك في انعقاد هيئة القضاء في قاعة منفصلة عن قاعة المحكمة، ونقل الموقوفين إلى قاعة داخل السجن، والتواصل معهم عبر تقنيات الاتصال عن بعد.
- الشروع في التحقيق في القضية لم يأتِ بناءً على نتائج عمل أمني واستخباراتي دقيق، بل استنادًا إلى مجرد "إفادة" مقتضبة أرسلها رئيس الشرطة العدلية (الذي تم اعتقاله لاحقًا بتهمة التآمر) إلى وزيرة العدل، تفيد بـ"وجود تحركات مشبوهة تهدف إلى التآمر على أمن البلاد الداخلي والخارجي".
- اعتماد السردية الكاملة للتآمر على شهادة مُخبرَين، أحدهما يقبع في السجن منذ عام 2017، والآخر موقوف أيضًا في قضايا تتعلق بالحق العام. قدّم هذان الشخصان "معلومات" زعما أنها وصلتهما من أقارب لهما يقيمون خارج البلاد، تفيد بقيام عدد من المعارضين بتحركات واجتماعات في الخارج، بعضها جرى في مقر سفارة تونس في بلجيكا، بهدف إعداد خطة للإطاحة بالنظام واغتيال الرئيس قيس سعيد.
علاوة على ذلك، كان للحملة الدولية التي أُطلقت تحت شعار "معًا من أجل إطلاق سراح المساجين السياسيين في تونس"، والتي أطلقتها خمسون منظمة حقوقية دولية بالتزامن مع الدورة الثامنة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، دورًا في تسليط الضوء على القضية. وتستمر هذه الحملة طوال فترة انعقاد الدورة، والتي تمتد من 27 فبراير/ شباط الماضي إلى 4 أبريل/ نيسان القادم.
وقد سبَق انطلاق الدورة الثامنة والخمسين والحملة الدولية إصدار مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بيانًا "شديد اللهجة" بشأن وضع الحقوق والحريات في تونس، وخاصةً فيما يتعلق بالمعتقلين السياسيين. طالبت المفوضية السلطات التونسية بـ"وضع حد لما وصفته بأنماط الاعتقال والاحتجاز التعسفي والسجن التي يتعرض لها العشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحفيين والنشطاء السياسيين". كما حث البيان السلطات التونسية على احترام الحق في حرية الرأي والتعبير.
الجدير بالذكر هو رد السلطات التونسية على بيان المفوضية السامية، والذي جاء في شكل بلاغ صادر عن وزارة الخارجية، أثار استياءً بالغًا في العديد من الأوساط المتابعة للشأن التونسي، بسبب اللغة الركيكة التي كُتب بها من حيث المفردات والتركيب اللغوي، ولأنه، سواء بقصد أو بدون قصد، أكّد التهم الموجهة للسلطات التونسية بالتدخل في القضاء واستغلاله ضد خصومها السياسيين، وذلك من خلال عبارات وجمل تبرر المحاكمات وتثبّت اتهامات لم يصدر فيها حكم قضائي نهائي.
وفي سياق مماثل للديناميكية المطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وضمان محاكمة عادلة، عقدت جبهة الخلاص الوطني، وهي حركة معارضة لحكم قيس سعيد، ندوة صحفية قبل أيام "لتسليط الضوء على آخر المستجدات في البلاد والمحاكمات السياسية وقضايا الرأي، وخاصةً ما يُعرف بقضية التآمر".
كما أصدرت منظمات حقوقية تونسية بيانات، وأطلقت دعوات للتجمع أمام "قصر العدالة" يوم المحاكمة، في حين نظمت تنسيقية عائلات المعتقلين السياسيين أمسيتين رمضانيتين لدعم المعتقلين وجميع المتهمين في قضية التآمر على أمن الدولة، حضرهما عدد كبير من السياسيين والإعلاميين والحقوقيين. وتم خلال هاتين الأمسيتين تلاوة رسائل المعتقلين إلى الرأي العام في الداخل والخارج، والتي أكدوا فيها على براءتهم من التهم الموجهة إليهم، وتمسكهم بحقهم في محاكمة علنية تتوفر فيها جميع ضمانات المحاكمة العادلة.
المحاكمة المحرار
لكل هذه الأسباب وغيرها، تُعتبر هذه المحاكمة بمثابة مقياس لتقييم وضع الحقوق والحريات في تونس منذ إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021. فعلى الرغم من أن دستور قيس سعيد (لعام 2022) استعار معظم بنود فصل الحقوق والحريات، كما وردت في دستور الثورة (لعام 2014)، إلا أن الممارسة اليومية للسلطة في هذا المجال كشفت عن فجوة عميقة بين النص الدستوري والواقع الفعلي.
فقد أسهم دستور قيس سعيد في تحويل القضاء من سلطة مستقلة إلى مجرد وظيفة تابعة للسلطة السياسية، وتجلّى ذلك في حل المجلس الأعلى للقضاء المنتخب من قبل هياكل القطاع، واستبداله بمجلس مُعيّن ظلّ في حالة شلل نتيجة "إحداث شغورات مقصودة في تركيبته وعدم ملئها منذ عامين"، وفقًا لبيان صادر عن جمعية القضاة التونسيين بتاريخ 17 فبراير/ شباط الماضي، تحت عنوان "القضاء التونسي يعيش وضعًا كارثيًا".
كما قام سعيد بعزل 57 قاضية وقاضيًا، قضت المحكمة الإدارية بإلغاء قرار عزل 47 منهم، وأمرت بإعادتهم إلى مناصبهم، إلا أن السلطة رفضت الامتثال لهذا الحكم. كان ذلك أول اعتداء على استقلالية القضاء، وتوالت بعد ذلك الإجراءات والتصريحات التي قضت الواحدة تلو الأخرى على أركان استقلالية القضاء.
فبعد أيام قليلة من اعتقال القيادات السياسية المتهمين بالتآمر، خرج قيس سعيد بتصريح يمثل تهديدًا صريحًا للقضاة، قائلاً: "من يتجرأ على تبرئتهم فهو شريك لهم". كما صرّح بأن الموقوفين "مجرمون وإرهابيون، وأن التاريخ قد حكم عليهم قبل أن تنطق المحاكم بإدانتهم"، متجاهلاً بذلك قرينة البراءة، وهي أحد أركان المحاكمة العادلة. وصل الأمر إلى حد تغيير أقفال مكاتب بعض القضاة لمنعهم من مباشرة عملهم، لمجرد أنهم تعاملوا مع الملفات بنزاهة ومهنية لم ترُق للسلطة التنفيذية!
لقد فعل قيس سعيد كل ما في وسعه لانتزاع كافة ضمانات الاستقلالية من الجهاز القضائي، وتحويله إلى ما تسميه المعارضة بـ"قضاء التعليمات"، وهو ما أدى إلى تراجع مستوى الثقة في عدالته إلى أدنى مستوى تشهده تونس.
المحاكمة الاختبار
في ظل هذه البيئة السلبية والمحتقنة التي أرست دعائمها سلطة قيس سعيد، وفي سياق هذه الديناميكية المعارضة التي تجسدها تحركات المجتمع المدني الحقوقي، والمعارضة السياسية بتنوعها وتعدد مبادراتها، تبدو هذه المحاكمة "التاريخية" بمثابة اختبار حقيقي للطرفين، خاصةً بعد أن أصبحت محط أنظار العديد من المتابعين والفاعلين في الداخل والخارج. الاختبار يتمثل، أولاً، في مدى قدرة سلطة قيس سعيد على المضي قدمًا إلى أقصى حد في محاولة "استئصال" أي صوت معارض، واستباق أي تحرك أو تنظيم محتمل للمعارضة على أساس مشروع سياسي موحد لمواجهة ما يعتبرونه "انقلابًا".
وثانيًا، في قدرة المجتمع المدني والمعارضة السياسية على مواصلة العمل على المدى القريب من أجل إطلاق سراح المعتقلين ووقف الملاحقات القضائية بحقهم وبحق جميع المعارضين، وإلغاء المرسوم رقم 54 الذي يقيّد حرية الرأي والتعبير، وإنهاء الإجراءات الاستثنائية والعودة إلى المسار الديمقراطي في المستقبل.
تجدر الإشارة إلى أن شهر مارس/ آذار الحالي سيشهد محاكمات سياسية أخرى لعدد من قيادات حركة النهضة، من أبرزهم المهندس علي العريض، رئيس الحكومة الأسبق ووزير الداخلية السابق، في قضية ما يُعرف بـ"ملف التسفير" (والمقرر لها يوم 11 مارس/ آذار الجاري)، والدكتور الصحبي عتيق، النائب في البرلمان المنتخب عام 2019، بتهمة تبييض الأموال والتآمر على أمن البلاد الداخلي والخارجي (والمقرر لها يوم 13 مارس/ آذار الجاري).
انتهت الجلسة الأولى بعد أن تناول عدد من محامي الدفاع جوانب إجرائية في مرافعاتهم، وطالبوا بعقد محاكمة علنية بحضور المتهمين والشهود، كما طالبوا بالإفراج عن موكليهم.
رفضت المحكمة طلبي الدفاع وقررت تأجيل الجلسة إلى يوم 11 أبريل/ نيسان القادم. وفي غضون ذلك، سيستمر هذا الحراك الحقوقي والسياسي على مدار الأسابيع، وربما الأشهر القادمة التي ستستغرقها جلسات هذه المحاكمة، ومن المرجح أن يكون ذلك في مسار تصاعدي وضغط مستمر مفتوح على احتمالات مختلفة.
مرة أخرى، يضع قيس سعيد نفسه في موقف حرج ويضع حكمه تحت ضغط شديد ومتزايد؛ بسبب إدارته المتسمة بالضعف وعدم الكفاءة للملفات، وأخطائه الواضحة وتجاوزه الصارخ للدستور والقانون. وستكون النتيجة، كما كانت في الانتخابات الرئاسية، مزيدًا من التآكل في شرعيته الأخلاقية وفي شرعيته المتراجعة أصلًا إلى أدنى المستويات.
ستظل هذه المحاكمة وصمة عار في تاريخ القضاء التونسي وفي سجل حكم قيس سعيد؛ لأنها جمعت كل عناصر المحاكمة المهينة التي لم تحترم فيها القوانين والإجراءات، وارتُكبت فيها كل الحماقات، ما يجعلها أقرب إلى مهزلة مبكية.